اتقوا الله ربكم، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الله افترض على المسلمين واجبات مفروضة على العباد؛ لتستقيم الحياة، وتصلح الشعوب، وتبنى الحضارات، وتحيا الأمم.
هذه المفروضات تتعلق بكل مسلم، والمسلم هو المكلف، وهو الذي ترجح عقله، ببلوغه سن التكليف.
أيها المؤمنون: إن الأبناء هم حديث اليوم وحديث كل يوم، بهم تقر عيون الآباء والأمهات، وبهم يزدان الكون والحياة، وقد علمنا القرآن الكريم في الدعاء أن نقول: [ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً] سورة الفرقان آية 74.
نعم، إن هؤلاء الأبناء والشباب أمانة ومسؤولية في أعناق الآباء والأمهات، وفي أعناق المربين والمربيات، فماذا قدَّمنا لهم، وإلى أي مدى وإلى أي عمر وسن نقدِّم لهم من العطاء؟!!.
إذا بدأنا بالشباب نبدأهم بهم من طفولتهم، فالطفل نبتة صغيرة تنمو وتترعرع، فتصير شجرة نافعة؛ مثمرة أو وارفة الظلال، أو قد تصير ضارة غير نافعة؛ شجرة شائكة أو سامَّة والعياذ بالله.
وكل يتمنى أن يكون ولده شاباً قوياً نافعاً، يحمل رسالة ويبني حضارة، فتعالوا نتعرف كيف يكون بناء هذا الإنسان؟!!.
إنه حتى نربي جيلاً من الأشجار المثمرة، أو وارفة الظلال؛ فإنه علينا أن نعتني بهم منذ البداية، مع حسن التوكل على الله تعالى والاستعانة به في صلاحهم.
فمن واجبك تجاه ولدك أن ترعاه وتحسن إليه، وتكرمه وتعطف عليه.
ولا شك أنّ كل أب يتمنى لابنه النجاح في دراسته، فهو دائماً يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يَعِده ويُمنّيه إن نجح في دراسته، ويتوعّده ويهدده إن رسب في دراسته، ولكن أي نجاح تريده لابنك؟!!، وأي استمرار وبناء تبغيه من ولدك؟!!.
المسألة أيها الأب الحنون ليست مسألة نجاح أو رسوب في الدراسة فحسب، بقدر ما هي مسألة نجاح أو رسوب في الحياة.
أيها الأخوة والأحبة:
ما أحوجنا في هذا الزمن العصيب أن نربي أبنائنا، وننشئ جيلاً قوي الإيمان يثبت على الحق، ويحمل لواء الإسلام، ويدافع عنه بكل طاقته.
كلنا يردد بأن الإسلام دين العلم، وقد جاء القرآن ثورة ضد الجهل والتخلف، ولكن الواقع يشير إلى أن المسلمين في قمة الجهل والتخلف.
فهل العيب في المصدر أم في المتلقي؟
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمانِ بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا
هذا، وإن بداية أي إصلاح تبدأ من إصلاح التعليم وحسن التربية.
وليس المقصود بالتربية: الدينية والأخلاقية فقط، أو التربية الوطنية فحسب، بل يضاف إلى ذلك: التربية العقلية والنفسية، فهي التربية الكاملة الشاملة.
فمن ذا الذي يقوم بذلك؟، إنه أنت أيها الأب الكريم، يا تهتم بولدك لتعده ليصبح شاباً، يا من تقدم لولدك من الطعام أطيبه، ومن الثياب أجملها، وتشتري له من السيارات أحدثها، وتحاول أن تبني له من البيوت أفخمها، فهلا تأملت وتوقفت مع ذاتك: ماذا قدّمت له ليتعلم الحياة، ماذا أعطيته ليكون نافعاً في دنياه ناجحاً في آخرته؟!!.
لذا كان اهتمامك بولدك، وقيامك بهذا الدور من أوجب الواجبات، وأعلى القربات، وأجلِّ المهمات، وأشرف المقامات، بل يقول علماء التربية: إنه شرط ضرورة، ويقول علماء الشريعة: إنه فرض عين على الجميع.
فرض العين هو الذي لا يجوز للمسلم أن يتركه أو يتخلى عنه.
أليس الصلاة مفروضة عليك فرض عين؟!!، بلى.
أليس الصيام مفروضاً عليك فرض عين؟!!، بلى.
فلا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.
وبالتالي: فإن إعداد ولدك للحياة هو فريضة بعد الفريضة، وتعليم ابنك فريضة عين كما فريضة الصلاة، فلا تهملها.
ألا واعلم أخي المسلم أن اهتمامك بتربية أبنائك هو فرض عين كفرض الصلاة المكتوبة، وأداء الزكاة المفروضة.
وعندما نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، والخطاب يتوجه إلى المكلفين بأعيانهم، وإلى الآباء والمربين إذا كان الإنسان قبل سن التكليف، مَن الذي يسمع الخطاب وينفذه؟!!، أنت أيها المسلم المكلف، فما دمت قادراً على أداء الصلاة لأنك مكلفاً بها، فيجب أن تكون قادراً على التعلم لأنك مكلف به.
أما قبل بلوغ سن البلوغ والتكليف، فمهمة التربية والتعليم على الآباء، فقد وجَّهنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" [خرَّجه جماعة من أهل الحديث وهذا لفظ أبي داود].
لقد توجَّه الخطاب إلى صاحب التكليف، لِمَن ترجَّح عقله لأن يؤدي واجبات ربه، واعلم أيها الأخ الكريم، والأب الرؤوف، أن مستقبل أبنائك مرهون بحسن إعدادك لهم.
أخي المسلم يوصيك الله في ولدك، والآية وإن كان بدءً لآيات الميراث إلا أن معناها عام في كل شأن من شؤون الحياة، يقول تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم }.
يوصيكم الله في أولادكم؛ إعداداً وتربية وتهيئة حتى يصبحوا في سن التكليف والبلوغ قادرين على تحمل المسؤولية.
أما اليوم، وللأسف الشديد، ماذا نرى في حياتنا، نرى أن المسؤولية على الآباء في الطعام والشراب والتعليم تستمر إلى ما بعد سن التكليف سن البلوغ، وهذه المسؤولية ليست دينية، بل اجتماعية تعود للعادات البالية والتقاليد الواردة إليها من شرق وغرب، ولم تنبع من ديننا.
انظروا إلى تاريخنا واقرؤوا فيه يوم سادت حضارة الإسلام، وكان المسلمون قادة وسادة الدنيا، وتأملوا في الوسائل التي امتلكوها، والطرق التي سلكوها.
إن المتأمل الناظر: يلحظ أن الاهتمام كان بالإعداد السليم والتهيئة الصحيحة، لتقديم الأجيال وإعدادهم لسن التكليف.
اسألوا: هل كان الواحد منهم يبحث عن علم ليحصل به على شهادة؟!!، هل كان الواحد منهم يتابع دراسته ليحصل على وظيفة؟!!.
كانوا يتعلمون شؤون الحياة، كانوا يتربون تربية صالحة، كان الأب ينشئ ولده تنشئة إيمانية، حتى إذا ما وصل إلى سن التكليف كان الحد الفاصل بين مسؤوليته وواجبه تجاه ولده، وبين أنه قد انتقلت المسؤولية الآن من الولد تجاه أبيه.
إن سن التكليف هو الحد الفاصل بين عطاءك وعطاء ولدك، فإذا كنت ممن يحسن لولده ويرعاه، ويعطف عليه ويكرمه؛ فإن هذا في المراحل المتقدمة من عمر ولدك، لعدم اكتماله ونضجه، أما أن ننظر إلى أبنائنا بأنهم ما زالوا صغاراً يحتاجون إلينا وإلى عطائنا، وهم تحت رعايتنا وفي كنفنا، فماذا بعد؟، والشاب الذي يستمر في علمه التقليدي يتزاحم مع زملائه ليجد فرصة عمل.
أيها المؤمنون: راجعوا أنفسكم واعلموا أن التعليم الذي يحتاجه الأبناء ليس بتحصيل الشهادات فقط، ولا بالانضمام إلى الجامعات فحسب، وإنما التعليم تعلم الحياة.
هذا وإن من أكبر الأخطاء أن يصل الولد إلى سن البلوغ (التكليف) ولم يتعلم الحياة بعد.
يمضي ثلث عمره منفقاً مستهلكاً، متكأ على مساعدة أبويه أو مجتمعه من أجل التحصيل العلمي.
لاحظوا معي شباب اليوم وقد امتلأ عقولهم بمعلومات لا يستخدمون منها إلا النـزر اليسير، وهو عالة على آبائهم ينفقون عليهم ويصرفون الأموال الطارئة في سبيل الحصول على شهادات، ثم ماذا بعد؟.
انتظار فرصة عمل وقد لا يجدونها إلا بشق الأنفس.
وإذا وجدوها قد لا يحسنون القيام بها، لأن دراستهم في واد والعمل في واد آخر.
لذا؛ ومع وجود الملل وقلة فرص العمل اتجه الشباب في ملأ أوقات فراغهم إلى اتباع شهواتهم وتعويض نقصهم بالأغاني الماجنة والأفلام الخادعة تعبيراً عن تمردهم على واقعهم المأسوي.
وكما تعلمون أحبتي أن المجتمع يُغالبنا على أبنائنا بمغرياته البراقة، ووسائله اللماعة؛ لملء فراغهم، بما لا ينفع ولا يغني عنهم من الجدِّ شيئاً، ولا يحبب إليهم العلم، ولا يبني لهم مستقبلاً، ولا يشدهم إلى عزائم الأمور، ومطامح ذوي الرشاد.
وللأسف فإن أنظمة التعليم المستوردة ممسوخة؛ لم تستطع أن تنشئ جيل الحداثة والتطور الموجود في بلاد المصدر، ولم تستطع أن تجعل التعليم في خدمة المجتمع.
وليت القائمين على أمر التعليم أدركوا حاجات الطلبة النفسية والعلمية، ولكن الهدف يبدو أنه غير واضح في الأذهان، وأنه غائب عن الأعيان، أو مغيب عن الواقع دون حجة أو برهان، ولو علموا الهدف، وتوضحت الغاية لسهلت عليهم الوسائل، عندها قدموا لهم ما ينفعهم وما يفيدهم.
فكما تحرص على طعامهم وشرابهم وثيابهم ومسكنهم فاحرص على إعدادهم الإعداد الجيد المفروض عليك وتربيتهم الأخلاقية وتنشئتهم الإيمانية.
واهتمامك هذا له زمن محدد، وإعداد الأبناء لا يكون طوال أعمارهم، بل له سن محددة، ألا وهي سن التكليف الشرعي، سن البلوغ.
لأن الولد بعد هذا السن مسؤول عن نفسه شرعاً، فإن ترك الصلاة حوسب، وإن ترك الزكاة عوقب، ولا ينفعه التجاؤه بأبيه أو أمه، قال تعالى: { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }.
لأن الوالد علّم ولده الأحكام الشرعية المفروضة وهو في سن السابعة، وأدبَّه عليها في سن العاشرة، وهيأه لتحمَّل مسؤولية التكليف الشرعي في سن البلوغ.
فإذا كان الأمر كذلك في شأن الخطابات الربانية، فما بالنا نرهق أجسادنا وأجساد أبنائنا، ونجهد أنفسنا ونهدر أموالنا زيادة عن الحاجة والضرورة، بإطالة زمن التعليم والدراسة؟!!!.
هل تحاسب عن ولدك إن ترك الصلاة بعد سن التكليف، هل تعاقب عوضاً عن ولدك إن أخطأ بحق المجتمع، أم إن المسؤولية الدينية والمدنية يتحملها كل بنفسه، { ولا تزر وازرة وزر أخرى }.
إن الشريعة لم تجعل محلاًّ للمسئولية إلا الإنسان المكلف.
وهو من ترجح اكتمال عقله ببلوغه سن النكاح، قال تعالى: { وإذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" رواه أحمد أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
أخوتي وأحبتي: يا مَن ترعون أبنائكم، ويا مَن ترومون منهم الخير والصلاح لكم ولمجتمعاتهم، احرصوا على خيرهم بدفعهم إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الواجب الشرعي: إعداد الطفل لحياة علمية عملية يستشعر بها مسؤوليته في المجتمع الصالح النافع.
ألا ولنعلم أيها الأحبة في الله: أن للولد حقاً على الوالد قبل حق الوالد على الولد..! فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة؛ وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً.
واسمع إلى هذا الطفل يجيب والده الذي عاتبه على العقوق، قال: يا أبت!، إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً؛ و أضعتني وليداً؛ فأضعتك شيخاً.
أيها المؤمنون: لنـتأمل فيما يريده منَّا القرآن، ولنعمل ما يطلبه منَّا الإسلام، بتنشئة الأجيال والأبناء تنشئة صالحة، إعدادهم لسن التكليف والبلوغ، تربية وعلماً وعملاً؛ فالخطاب يتوجه إلينا جميعاً، { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }.
فسيرى الله عملك أيها الأب.
سيرى الله عملك أيها الشاب المكلف.
سيرى الله علمك يا مَن تتولى مسؤولية التربية والتعليم.
وسيحاسب الله عزَّ وجلَّ المجتمعات المقصرة إذا لم تعطِ المجال لأبنائها في الحياة.
فيا عباد الله: هذه وصايا الله إليكم ـ في أبنائكم ـ لترعوها، هذه توجيهات نبيكم إليكم لتحسنوا التصرف بها.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
مسجد مدينة آل لوتاه _ دبي
26/ربيع الآخر/1426 هـ، 3/6/2005م
أيها المؤمنون: إن الأبناء هم حديث اليوم وحديث كل يوم، بهم تقر عيون الآباء والأمهات، وبهم يزدان الكون والحياة، وقد علمنا القرآن الكريم في الدعاء أن نقول: [ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً] سورة الفرقان آية 74.
نعم، إن هؤلاء الأبناء والشباب أمانة ومسؤولية في أعناق الآباء والأمهات، وفي أعناق المربين والمربيات، فماذا قدَّمنا لهم، وإلى أي مدى وإلى أي عمر وسن نقدِّم لهم من العطاء؟!!.
إذا بدأنا بالشباب نبدأهم بهم من طفولتهم، فالطفل نبتة صغيرة تنمو وتترعرع، فتصير شجرة نافعة؛ مثمرة أو وارفة الظلال، أو قد تصير ضارة غير نافعة؛ شجرة شائكة أو سامَّة والعياذ بالله.
وكل يتمنى أن يكون ولده شاباً قوياً نافعاً، يحمل رسالة ويبني حضارة، فتعالوا نتعرف كيف يكون بناء هذا الإنسان؟!!.
إنه حتى نربي جيلاً من الأشجار المثمرة، أو وارفة الظلال؛ فإنه علينا أن نعتني بهم منذ البداية، مع حسن التوكل على الله تعالى والاستعانة به في صلاحهم.
فمن واجبك تجاه ولدك أن ترعاه وتحسن إليه، وتكرمه وتعطف عليه.
ولا شك أنّ كل أب يتمنى لابنه النجاح في دراسته، فهو دائماً يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يَعِده ويُمنّيه إن نجح في دراسته، ويتوعّده ويهدده إن رسب في دراسته، ولكن أي نجاح تريده لابنك؟!!، وأي استمرار وبناء تبغيه من ولدك؟!!.
المسألة أيها الأب الحنون ليست مسألة نجاح أو رسوب في الدراسة فحسب، بقدر ما هي مسألة نجاح أو رسوب في الحياة.
أيها الأخوة والأحبة:
ما أحوجنا في هذا الزمن العصيب أن نربي أبنائنا، وننشئ جيلاً قوي الإيمان يثبت على الحق، ويحمل لواء الإسلام، ويدافع عنه بكل طاقته.
كلنا يردد بأن الإسلام دين العلم، وقد جاء القرآن ثورة ضد الجهل والتخلف، ولكن الواقع يشير إلى أن المسلمين في قمة الجهل والتخلف.
فهل العيب في المصدر أم في المتلقي؟
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمانِ بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا
هذا، وإن بداية أي إصلاح تبدأ من إصلاح التعليم وحسن التربية.
وليس المقصود بالتربية: الدينية والأخلاقية فقط، أو التربية الوطنية فحسب، بل يضاف إلى ذلك: التربية العقلية والنفسية، فهي التربية الكاملة الشاملة.
فمن ذا الذي يقوم بذلك؟، إنه أنت أيها الأب الكريم، يا تهتم بولدك لتعده ليصبح شاباً، يا من تقدم لولدك من الطعام أطيبه، ومن الثياب أجملها، وتشتري له من السيارات أحدثها، وتحاول أن تبني له من البيوت أفخمها، فهلا تأملت وتوقفت مع ذاتك: ماذا قدّمت له ليتعلم الحياة، ماذا أعطيته ليكون نافعاً في دنياه ناجحاً في آخرته؟!!.
لذا كان اهتمامك بولدك، وقيامك بهذا الدور من أوجب الواجبات، وأعلى القربات، وأجلِّ المهمات، وأشرف المقامات، بل يقول علماء التربية: إنه شرط ضرورة، ويقول علماء الشريعة: إنه فرض عين على الجميع.
فرض العين هو الذي لا يجوز للمسلم أن يتركه أو يتخلى عنه.
أليس الصلاة مفروضة عليك فرض عين؟!!، بلى.
أليس الصيام مفروضاً عليك فرض عين؟!!، بلى.
فلا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.
وبالتالي: فإن إعداد ولدك للحياة هو فريضة بعد الفريضة، وتعليم ابنك فريضة عين كما فريضة الصلاة، فلا تهملها.
ألا واعلم أخي المسلم أن اهتمامك بتربية أبنائك هو فرض عين كفرض الصلاة المكتوبة، وأداء الزكاة المفروضة.
وعندما نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، والخطاب يتوجه إلى المكلفين بأعيانهم، وإلى الآباء والمربين إذا كان الإنسان قبل سن التكليف، مَن الذي يسمع الخطاب وينفذه؟!!، أنت أيها المسلم المكلف، فما دمت قادراً على أداء الصلاة لأنك مكلفاً بها، فيجب أن تكون قادراً على التعلم لأنك مكلف به.
أما قبل بلوغ سن البلوغ والتكليف، فمهمة التربية والتعليم على الآباء، فقد وجَّهنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" [خرَّجه جماعة من أهل الحديث وهذا لفظ أبي داود].
لقد توجَّه الخطاب إلى صاحب التكليف، لِمَن ترجَّح عقله لأن يؤدي واجبات ربه، واعلم أيها الأخ الكريم، والأب الرؤوف، أن مستقبل أبنائك مرهون بحسن إعدادك لهم.
أخي المسلم يوصيك الله في ولدك، والآية وإن كان بدءً لآيات الميراث إلا أن معناها عام في كل شأن من شؤون الحياة، يقول تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم }.
يوصيكم الله في أولادكم؛ إعداداً وتربية وتهيئة حتى يصبحوا في سن التكليف والبلوغ قادرين على تحمل المسؤولية.
أما اليوم، وللأسف الشديد، ماذا نرى في حياتنا، نرى أن المسؤولية على الآباء في الطعام والشراب والتعليم تستمر إلى ما بعد سن التكليف سن البلوغ، وهذه المسؤولية ليست دينية، بل اجتماعية تعود للعادات البالية والتقاليد الواردة إليها من شرق وغرب، ولم تنبع من ديننا.
انظروا إلى تاريخنا واقرؤوا فيه يوم سادت حضارة الإسلام، وكان المسلمون قادة وسادة الدنيا، وتأملوا في الوسائل التي امتلكوها، والطرق التي سلكوها.
إن المتأمل الناظر: يلحظ أن الاهتمام كان بالإعداد السليم والتهيئة الصحيحة، لتقديم الأجيال وإعدادهم لسن التكليف.
اسألوا: هل كان الواحد منهم يبحث عن علم ليحصل به على شهادة؟!!، هل كان الواحد منهم يتابع دراسته ليحصل على وظيفة؟!!.
كانوا يتعلمون شؤون الحياة، كانوا يتربون تربية صالحة، كان الأب ينشئ ولده تنشئة إيمانية، حتى إذا ما وصل إلى سن التكليف كان الحد الفاصل بين مسؤوليته وواجبه تجاه ولده، وبين أنه قد انتقلت المسؤولية الآن من الولد تجاه أبيه.
إن سن التكليف هو الحد الفاصل بين عطاءك وعطاء ولدك، فإذا كنت ممن يحسن لولده ويرعاه، ويعطف عليه ويكرمه؛ فإن هذا في المراحل المتقدمة من عمر ولدك، لعدم اكتماله ونضجه، أما أن ننظر إلى أبنائنا بأنهم ما زالوا صغاراً يحتاجون إلينا وإلى عطائنا، وهم تحت رعايتنا وفي كنفنا، فماذا بعد؟، والشاب الذي يستمر في علمه التقليدي يتزاحم مع زملائه ليجد فرصة عمل.
أيها المؤمنون: راجعوا أنفسكم واعلموا أن التعليم الذي يحتاجه الأبناء ليس بتحصيل الشهادات فقط، ولا بالانضمام إلى الجامعات فحسب، وإنما التعليم تعلم الحياة.
هذا وإن من أكبر الأخطاء أن يصل الولد إلى سن البلوغ (التكليف) ولم يتعلم الحياة بعد.
يمضي ثلث عمره منفقاً مستهلكاً، متكأ على مساعدة أبويه أو مجتمعه من أجل التحصيل العلمي.
لاحظوا معي شباب اليوم وقد امتلأ عقولهم بمعلومات لا يستخدمون منها إلا النـزر اليسير، وهو عالة على آبائهم ينفقون عليهم ويصرفون الأموال الطارئة في سبيل الحصول على شهادات، ثم ماذا بعد؟.
انتظار فرصة عمل وقد لا يجدونها إلا بشق الأنفس.
وإذا وجدوها قد لا يحسنون القيام بها، لأن دراستهم في واد والعمل في واد آخر.
لذا؛ ومع وجود الملل وقلة فرص العمل اتجه الشباب في ملأ أوقات فراغهم إلى اتباع شهواتهم وتعويض نقصهم بالأغاني الماجنة والأفلام الخادعة تعبيراً عن تمردهم على واقعهم المأسوي.
وكما تعلمون أحبتي أن المجتمع يُغالبنا على أبنائنا بمغرياته البراقة، ووسائله اللماعة؛ لملء فراغهم، بما لا ينفع ولا يغني عنهم من الجدِّ شيئاً، ولا يحبب إليهم العلم، ولا يبني لهم مستقبلاً، ولا يشدهم إلى عزائم الأمور، ومطامح ذوي الرشاد.
وللأسف فإن أنظمة التعليم المستوردة ممسوخة؛ لم تستطع أن تنشئ جيل الحداثة والتطور الموجود في بلاد المصدر، ولم تستطع أن تجعل التعليم في خدمة المجتمع.
وليت القائمين على أمر التعليم أدركوا حاجات الطلبة النفسية والعلمية، ولكن الهدف يبدو أنه غير واضح في الأذهان، وأنه غائب عن الأعيان، أو مغيب عن الواقع دون حجة أو برهان، ولو علموا الهدف، وتوضحت الغاية لسهلت عليهم الوسائل، عندها قدموا لهم ما ينفعهم وما يفيدهم.
فكما تحرص على طعامهم وشرابهم وثيابهم ومسكنهم فاحرص على إعدادهم الإعداد الجيد المفروض عليك وتربيتهم الأخلاقية وتنشئتهم الإيمانية.
واهتمامك هذا له زمن محدد، وإعداد الأبناء لا يكون طوال أعمارهم، بل له سن محددة، ألا وهي سن التكليف الشرعي، سن البلوغ.
لأن الولد بعد هذا السن مسؤول عن نفسه شرعاً، فإن ترك الصلاة حوسب، وإن ترك الزكاة عوقب، ولا ينفعه التجاؤه بأبيه أو أمه، قال تعالى: { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }.
لأن الوالد علّم ولده الأحكام الشرعية المفروضة وهو في سن السابعة، وأدبَّه عليها في سن العاشرة، وهيأه لتحمَّل مسؤولية التكليف الشرعي في سن البلوغ.
فإذا كان الأمر كذلك في شأن الخطابات الربانية، فما بالنا نرهق أجسادنا وأجساد أبنائنا، ونجهد أنفسنا ونهدر أموالنا زيادة عن الحاجة والضرورة، بإطالة زمن التعليم والدراسة؟!!!.
هل تحاسب عن ولدك إن ترك الصلاة بعد سن التكليف، هل تعاقب عوضاً عن ولدك إن أخطأ بحق المجتمع، أم إن المسؤولية الدينية والمدنية يتحملها كل بنفسه، { ولا تزر وازرة وزر أخرى }.
إن الشريعة لم تجعل محلاًّ للمسئولية إلا الإنسان المكلف.
وهو من ترجح اكتمال عقله ببلوغه سن النكاح، قال تعالى: { وإذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" رواه أحمد أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
أخوتي وأحبتي: يا مَن ترعون أبنائكم، ويا مَن ترومون منهم الخير والصلاح لكم ولمجتمعاتهم، احرصوا على خيرهم بدفعهم إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الواجب الشرعي: إعداد الطفل لحياة علمية عملية يستشعر بها مسؤوليته في المجتمع الصالح النافع.
ألا ولنعلم أيها الأحبة في الله: أن للولد حقاً على الوالد قبل حق الوالد على الولد..! فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة؛ وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً.
واسمع إلى هذا الطفل يجيب والده الذي عاتبه على العقوق، قال: يا أبت!، إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً؛ و أضعتني وليداً؛ فأضعتك شيخاً.
أيها المؤمنون: لنـتأمل فيما يريده منَّا القرآن، ولنعمل ما يطلبه منَّا الإسلام، بتنشئة الأجيال والأبناء تنشئة صالحة، إعدادهم لسن التكليف والبلوغ، تربية وعلماً وعملاً؛ فالخطاب يتوجه إلينا جميعاً، { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }.
فسيرى الله عملك أيها الأب.
سيرى الله عملك أيها الشاب المكلف.
سيرى الله علمك يا مَن تتولى مسؤولية التربية والتعليم.
وسيحاسب الله عزَّ وجلَّ المجتمعات المقصرة إذا لم تعطِ المجال لأبنائها في الحياة.
فيا عباد الله: هذه وصايا الله إليكم ـ في أبنائكم ـ لترعوها، هذه توجيهات نبيكم إليكم لتحسنوا التصرف بها.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
مسجد مدينة آل لوتاه _ دبي
26/ربيع الآخر/1426 هـ، 3/6/2005م
خطبة عن
تعليم الأجيال العلم النافع
مسجد مدينة لوتاه – دبي
3 جمادى الأولى 1426 هـ، 10/6/2005م
تعليم الأجيال العلم النافع
مسجد مدينة لوتاه – دبي
3 جمادى الأولى 1426 هـ، 10/6/2005م
الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"( ).
{ اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن خبير بما تعملون }.
واعلموا أن الله يسر أسباب العلم لعباده ليتعرفوا عليه ويهتدوا إليه.
فجعل لهم وسائل للتعلم، وأبواباً للتفقه، ووعاءً للتأمل، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم؛ إن السمع والبصر والفؤاد؛ كل أولئك كان عنه مسؤول }.
وقد عَلِمْنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على كل مكلف أن يطلب العلم، وجعل ذلك فريضة، فماذا نتعلم، ولماذا نتعلم؟.
تعالوا نجيب على الأسئلة الآتية:
أيود أحدكم أن تكون له أرض بورٌ لا نفع منها ولا شجر فيها، قاحلة لا ماء فيها ولا نبع؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يكون له هيكل سيارة وشكلها الخارجي الذي لا يستفاد منه ولا حركة فيه؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يمتلك صندوقاً كبيراً فيه من النقود وأنواع من العملات الأجنبية والمحلية ولكنها مزورة؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن تكون عنده مجموعة كبيرة من الشيكات السياحية المزركشة، وبطاقات الائتمان الملونة ، ولكن لا رصيد لها؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يكون له مجرد مخطط بيت لا وجود له في أرض الواقع، وهو يدعي أنه يسكنه؟، طبعاً، لا.
كذلك هو شأن مَن يرضي من حياته أن يأكل ويشرب وينام، ويلهو ويلعب، دون أن يكون له هدف يسعى إليه، أو مقصد يرومه.
لم يخلقنا الله عبثاً، ولم يتركنا هملاً، خلقنا لنتعرف عليه، وأنزل إلينا كتبه وأرسل إلينا رسله ليرشدونا الطريق.
حتى أولئك الذين سلكوا دروب التعلم، وأخذوا بأسباب الحصول على العلم، إذا لم يكن لهم هدف أو غاية من تعلمهم فلا قيمة لسعيهم.
يقول تعالى: { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى؛ إن سعيكم لشتى }.
فاجعل لنفسك مقصداً، فقد خلقك الله لتتعرف عليه، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
ولا تكن كمن يرضي من العلوم صورها، ومن المعارف أشكالها، ومن التربية ظاهرها.
هذا معه شهادة، وهذا تعلم (الأتكيت) ويتصرف به.
ولعل هذا هو الغالب في مَن يشغل نفسه بحشو ذاكرته بالمعلومات النظرية، وقل ما يكون هناك مجال للتطبيق العملي.
ومن المؤسف أن يكون تقييم الإنسان واختباره بقدر ما يحمل عقله من معلومات مفيدة وغير مفيدة، معلومات قريبة وأخرى بعيدة.
مع أن المدنية المعاصرة قد طالعتنا بوسائل أكثر قدرة على حفظ المعلومات، وتخزين الملفات، وسرعة الوصول إلى المراد، فهل يقال عن تلكم الوسائل: إنها عالمة؟!!، قطعاً، لا.
القرآن الكريم جزء مما تحمله في جيبك عبر (الموبايل) الهاتف المحمول، فهل يقال: إن الجهاز حافظ للقرآن، لا يقول بهذا عاقل، ولا ذو لب سليم.
لأن الحافظ للقرآن: العامل به المطبق لأحكامه المتبع أوامره، المجتنب نواهيه، الذي يحمل العلم النافع.
فدققوا في الأهداف والمقاصد، والمآلات والنتائج:
إذ الهدف من تنشئة الأبناء: تربية إيمانية وعبادية ونفسية شاملة.
والهدف من التعليم: إعداده ليكون إنساناً صالحاً يقوم بحق الله، وحق نفسه، وحقوق أسرته، وحقوق المجتمع كله.
تعده ليأمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.
فالعلم في الإسلام هو العلم النافع الذي يخدم الإنسان في دنياه وآخرته، ويحقق الخير والصلاح لأبناء مجتمعه.
والعلم والتعلم إنما هو طريقة تفكير، وحسن أداء، وليس حفظ معلومات فحسب.
ولقد رغب الشارع الحكيم بالعلم النافع، واعتبر ما عداه زيادة لا قيمة لها، ومضيعة وقت لا فائدة منه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة"( ).
الإحكام والإتقان، والعمل الواقعي، للوصول إلى العدل، ومن هنا كان العلم النافع يشمل كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها، ومعادها، وليس العلم الشرعي فحسب.
ومن حرم العلم النافع فقد حُرِم خيراً كثيراً، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة.
به يعرف الهدى من الضلال، والحق من الباطل، والحلال من الحرام، والعلم النافع يدعو إلى العمل والتكاتف والتناصح والتعاون على الخير.
إنه يحقق سعادة دنيوية، ويورث في صاحبه خشية الله، قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء }.
كلنا يحفظ قول الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }، وأغلبنا ينصرف نظره إلى أن المقصود منها هو علماء الشريعة أو الفقهاء أو المشايخ (المطاوعة)، مع أن سياق الآية يشير إلى غير ذلك تماماً.
تعالوا نتأمل الآيات الكريمة، يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
لذا فإن من الحكمة: الحرصُ على طلب العلم، واغتنامُ الوقت، والاستفادةُ من كل لحظة من لحظات الحياة في تحصيل ما ينفع.
وأجملْ بها من كلمةٍ قالها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : العِلْمُ كَثِيرٌ فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ، ويقول كذلك: العِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْوَي، فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُمَا: العِلْمُ كَثِيرٌ فَارْعَوْا أَحْسَنَهُ؛ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَهِ تَعَالَى: { فَبَشّـِرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }؟.
ومن العجب أنّ هذا المطلب نفسَه قد نُقِْل عن (أينشتَين)، وما أدري أكان ذلك مجرّد تواردِ خواطر، أم أنّ (أينشتَين) قد نقل الفكرة عن المسلمين؟.
يقول أينشتَين: إنّ الإفراط في القراءة (كثرة المعلومات وحفظ الكلمات) يسلب قوّة الابتكار من العقل بعد بلوغ سنّ معيّنة؛ فمن أفرط في القراءة وأقلّ من اعتماده على فكره (تأمله)، فإنّ فكره سيصاب بالخمول والعجز.
العُمْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ تَعَلَّمَ كُلَّ مَا يَحْسُنُ بِكَ عِلْمُهُ: فَتَعَلَّمِ الأَهَمَّ فَالأَهَمَّ.
إنه قول العباقرة عبر التاريخ والجهابذة عبر السنين، وهذا شأن العلماء الأفذاذ والصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال إنَّه كان له جار من الأنصار هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وكان هو وإيَّاه يتناوبان النـزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا يحضر يوماً، وهذا يحضر يوماً، فإذا حضر صاحب النوبة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع في ذلك اليوم، فإذا رجع إلى بيته التقى بجاره الأنصاري فأبلغه ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا الأنصاري إذا نزل في نوبته وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع من الحق والهدى ثمَّ رجع إلى منـزله أخبر جاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما حصَّله وبما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم في هذا اليوم.
لم يشغلهم التفرغ للعلم عن ممارسة العمل، ولم تشغلهم أعمالهم الدنيوية عن طلب العلم النافع، بل كانوا يقرنون العلم مع العمل، يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : كنَّا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهنَّ حتى نتعلَّم معانيهنَّ والعمل بهنَّ فتعلَّمنا العلم والعمل جميعاً.
وأما عن طرق الاستفادة من العلم:
بالحرص على اقتناء الكتب النافعة التي تحتوي العلم الذي نحتاجه.
ثم تخصيص أوقات، لمطالعة الكتب النافعة.
يقول بعض العلماء يوصي ابنه في المحافظة على العلم وفي تحصيله:
وكنـز لا تخشى عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
فالجاه قد يأتي ويزول، والمال قد يضيع أو يُسرق ويذهب، ولكن العلم الذي يحفظه الإنسان لا يُخشى عليه ولا يذهب إلا بذهاب الإنسان، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلم بموت العلماء".
يقول الشاعر:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إذا عليه شددنا
فأكسبوا أبنائكم فضيلة المطالعة النافعة والرغبة في الازدياد من العلم النافع والعمل الصالح، واستغلال أوقات الفراغ على وجه مفيد تزدهر به شخصية الفرد وأحوال المجتمع.
وتجنبوا العلوم التي انقضى زمانها، أو التي لا طائل منها، أو التي تضر المسلم في دينه، أو توقعه في الشك والإلحاد، قال تعالى: { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }[ الشورى: 14].
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"( ).
{ اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن خبير بما تعملون }.
واعلموا أن الله يسر أسباب العلم لعباده ليتعرفوا عليه ويهتدوا إليه.
فجعل لهم وسائل للتعلم، وأبواباً للتفقه، ووعاءً للتأمل، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم؛ إن السمع والبصر والفؤاد؛ كل أولئك كان عنه مسؤول }.
وقد عَلِمْنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على كل مكلف أن يطلب العلم، وجعل ذلك فريضة، فماذا نتعلم، ولماذا نتعلم؟.
تعالوا نجيب على الأسئلة الآتية:
أيود أحدكم أن تكون له أرض بورٌ لا نفع منها ولا شجر فيها، قاحلة لا ماء فيها ولا نبع؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يكون له هيكل سيارة وشكلها الخارجي الذي لا يستفاد منه ولا حركة فيه؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يمتلك صندوقاً كبيراً فيه من النقود وأنواع من العملات الأجنبية والمحلية ولكنها مزورة؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن تكون عنده مجموعة كبيرة من الشيكات السياحية المزركشة، وبطاقات الائتمان الملونة ، ولكن لا رصيد لها؟، طبعاً: لا.
أيود أحدكم أن يكون له مجرد مخطط بيت لا وجود له في أرض الواقع، وهو يدعي أنه يسكنه؟، طبعاً، لا.
كذلك هو شأن مَن يرضي من حياته أن يأكل ويشرب وينام، ويلهو ويلعب، دون أن يكون له هدف يسعى إليه، أو مقصد يرومه.
لم يخلقنا الله عبثاً، ولم يتركنا هملاً، خلقنا لنتعرف عليه، وأنزل إلينا كتبه وأرسل إلينا رسله ليرشدونا الطريق.
حتى أولئك الذين سلكوا دروب التعلم، وأخذوا بأسباب الحصول على العلم، إذا لم يكن لهم هدف أو غاية من تعلمهم فلا قيمة لسعيهم.
يقول تعالى: { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى؛ إن سعيكم لشتى }.
فاجعل لنفسك مقصداً، فقد خلقك الله لتتعرف عليه، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
ولا تكن كمن يرضي من العلوم صورها، ومن المعارف أشكالها، ومن التربية ظاهرها.
هذا معه شهادة، وهذا تعلم (الأتكيت) ويتصرف به.
ولعل هذا هو الغالب في مَن يشغل نفسه بحشو ذاكرته بالمعلومات النظرية، وقل ما يكون هناك مجال للتطبيق العملي.
ومن المؤسف أن يكون تقييم الإنسان واختباره بقدر ما يحمل عقله من معلومات مفيدة وغير مفيدة، معلومات قريبة وأخرى بعيدة.
مع أن المدنية المعاصرة قد طالعتنا بوسائل أكثر قدرة على حفظ المعلومات، وتخزين الملفات، وسرعة الوصول إلى المراد، فهل يقال عن تلكم الوسائل: إنها عالمة؟!!، قطعاً، لا.
القرآن الكريم جزء مما تحمله في جيبك عبر (الموبايل) الهاتف المحمول، فهل يقال: إن الجهاز حافظ للقرآن، لا يقول بهذا عاقل، ولا ذو لب سليم.
لأن الحافظ للقرآن: العامل به المطبق لأحكامه المتبع أوامره، المجتنب نواهيه، الذي يحمل العلم النافع.
فدققوا في الأهداف والمقاصد، والمآلات والنتائج:
إذ الهدف من تنشئة الأبناء: تربية إيمانية وعبادية ونفسية شاملة.
والهدف من التعليم: إعداده ليكون إنساناً صالحاً يقوم بحق الله، وحق نفسه، وحقوق أسرته، وحقوق المجتمع كله.
تعده ليأمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.
فالعلم في الإسلام هو العلم النافع الذي يخدم الإنسان في دنياه وآخرته، ويحقق الخير والصلاح لأبناء مجتمعه.
والعلم والتعلم إنما هو طريقة تفكير، وحسن أداء، وليس حفظ معلومات فحسب.
ولقد رغب الشارع الحكيم بالعلم النافع، واعتبر ما عداه زيادة لا قيمة لها، ومضيعة وقت لا فائدة منه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة"( ).
الإحكام والإتقان، والعمل الواقعي، للوصول إلى العدل، ومن هنا كان العلم النافع يشمل كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها، ومعادها، وليس العلم الشرعي فحسب.
ومن حرم العلم النافع فقد حُرِم خيراً كثيراً، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة.
به يعرف الهدى من الضلال، والحق من الباطل، والحلال من الحرام، والعلم النافع يدعو إلى العمل والتكاتف والتناصح والتعاون على الخير.
إنه يحقق سعادة دنيوية، ويورث في صاحبه خشية الله، قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء }.
كلنا يحفظ قول الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }، وأغلبنا ينصرف نظره إلى أن المقصود منها هو علماء الشريعة أو الفقهاء أو المشايخ (المطاوعة)، مع أن سياق الآية يشير إلى غير ذلك تماماً.
تعالوا نتأمل الآيات الكريمة، يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
لذا فإن من الحكمة: الحرصُ على طلب العلم، واغتنامُ الوقت، والاستفادةُ من كل لحظة من لحظات الحياة في تحصيل ما ينفع.
وأجملْ بها من كلمةٍ قالها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : العِلْمُ كَثِيرٌ فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ، ويقول كذلك: العِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْوَي، فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُمَا: العِلْمُ كَثِيرٌ فَارْعَوْا أَحْسَنَهُ؛ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَهِ تَعَالَى: { فَبَشّـِرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }؟.
ومن العجب أنّ هذا المطلب نفسَه قد نُقِْل عن (أينشتَين)، وما أدري أكان ذلك مجرّد تواردِ خواطر، أم أنّ (أينشتَين) قد نقل الفكرة عن المسلمين؟.
يقول أينشتَين: إنّ الإفراط في القراءة (كثرة المعلومات وحفظ الكلمات) يسلب قوّة الابتكار من العقل بعد بلوغ سنّ معيّنة؛ فمن أفرط في القراءة وأقلّ من اعتماده على فكره (تأمله)، فإنّ فكره سيصاب بالخمول والعجز.
العُمْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ تَعَلَّمَ كُلَّ مَا يَحْسُنُ بِكَ عِلْمُهُ: فَتَعَلَّمِ الأَهَمَّ فَالأَهَمَّ.
إنه قول العباقرة عبر التاريخ والجهابذة عبر السنين، وهذا شأن العلماء الأفذاذ والصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال إنَّه كان له جار من الأنصار هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وكان هو وإيَّاه يتناوبان النـزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا يحضر يوماً، وهذا يحضر يوماً، فإذا حضر صاحب النوبة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع في ذلك اليوم، فإذا رجع إلى بيته التقى بجاره الأنصاري فأبلغه ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا الأنصاري إذا نزل في نوبته وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع من الحق والهدى ثمَّ رجع إلى منـزله أخبر جاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما حصَّله وبما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم في هذا اليوم.
لم يشغلهم التفرغ للعلم عن ممارسة العمل، ولم تشغلهم أعمالهم الدنيوية عن طلب العلم النافع، بل كانوا يقرنون العلم مع العمل، يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : كنَّا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهنَّ حتى نتعلَّم معانيهنَّ والعمل بهنَّ فتعلَّمنا العلم والعمل جميعاً.
وأما عن طرق الاستفادة من العلم:
بالحرص على اقتناء الكتب النافعة التي تحتوي العلم الذي نحتاجه.
ثم تخصيص أوقات، لمطالعة الكتب النافعة.
يقول بعض العلماء يوصي ابنه في المحافظة على العلم وفي تحصيله:
وكنـز لا تخشى عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
فالجاه قد يأتي ويزول، والمال قد يضيع أو يُسرق ويذهب، ولكن العلم الذي يحفظه الإنسان لا يُخشى عليه ولا يذهب إلا بذهاب الإنسان، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلم بموت العلماء".
يقول الشاعر:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إذا عليه شددنا
فأكسبوا أبنائكم فضيلة المطالعة النافعة والرغبة في الازدياد من العلم النافع والعمل الصالح، واستغلال أوقات الفراغ على وجه مفيد تزدهر به شخصية الفرد وأحوال المجتمع.
وتجنبوا العلوم التي انقضى زمانها، أو التي لا طائل منها، أو التي تضر المسلم في دينه، أو توقعه في الشك والإلحاد، قال تعالى: { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }[ الشورى: 14].