بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالي:
"وفي السماء رزقكم وما توعدون…”
ما أعجب هذه الآية! كلمات لا يقولها إلا رب العالمين… حقيقة لا يعرفها إلا مدبر الكون … إن الإنسان مهما أوتي من علم فهو جاهل بمصادر رزقه ومصائر حياته، والإنسان مهما أعطي من حيلة وقوة فهو عاجز عن مغالبة قدَره ومجاوزة قدْره…
والآية لها تفاسير عدة لدى العلماء وكلها صحيحة، وجميعها تعبر عن حقيقة ثابتة، قال الإمام الماوردي رحمه الله في قوله تعالى: { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء ، قاله سعيد بن جبير والضحاك .
الثاني : يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله { وَمَا تُوعَدُونَ } ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من خير وشر ، قاله مجاهد .
الثاني : من جنة ونار ، قاله الضحاك .
الثالث : من أمر الساعة ، قاله الربيع[1] .[2]
إن الله لم يرزق الإنسان من السماء فقط، بل من السماء والأرض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[3] وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}[4] وقال أيضا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[5]
نعم إن الله رزق الإنسان من السماء والأرض، ولكن أراد الله بهذه الآية العجيبة لفت انتباه الإنسان إلى أمر جلل وينطوي على حقائق كبيرة مهمة كثيرا ما غفل عنها الإنسان، وقد أنكرها بعضهم.
الحقائق الأربع
الحقيقة الأولى: إن لهذه الأرزاق أسبابا لا يدركها الإنسان، إنها أسباب ليس للإنسان دخل فيها، ولا حيلة له عليها، أسباب لا تصل إليها يده ولا يستوعبها عقله. ليس للإنسان حق الفخر والتجبر على رزقه المقسوم، فإنها جاءته بتدبير الخالق الكريم المنان، ليس للإنسان إلا أن يشكره ويعظمه، لا أن يتجاهله أو يكفره.
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ !! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؟! مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ . ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ … ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ … ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ . كَلَّا!! لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ . فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا … ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا … فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا … وَعِنَبًا وَقَضْبًا … وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا … وَحَدَائِقَ غُلْبًا … وَفَاكِهَةً وَأَبًّا … مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }[6]
الحقيقة الثانية: أن هذه الأرزاق إنما هي من عند الله الواحد القهار، وليس عند أحد من خلقه، قد يكون سببها الظاهر أمرا ماديا محسوسا لكن لطف الله أبى إلا أن يعوِّد الإنسان على التفكير فيما وراء المظاهر، وأن ينفذ إدراكه إلى ما قبل المادة وبعدها. فلنتأمل هذه الآيات: قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[7] قال تعالى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}[8] نعم إنه لطف الله الذي جعل من صنعه وتدبيره أمرا خفيا عن الأنظار لكنه غير خافٍ عن قلب المؤمن، ولا غائب عن وعي الذاكر الشاكر.
الحقيقة الثالثة: إن هذه الأرزاق ثابتة مكتوبة مقدرة، ليس على الإنسان أن يجعلها أكبر همه ولا جل اهتمامه، قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[9]
روى البيهقي عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا تستبطئوا الرزق ، فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغه آخر رزق هو له فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب من الحلال وترك الحرام.”[10] قال: “وفي هذا ما دل أنه أمر بطلب الرزق إلا أنه أمر بإجماله ، وإجمال الطلب هو أن يطلبه من الحلال معتمدا على الله عز وجل ، ولا يلاحظ في طلبه قواه ومكايده وحيله ولا يطلبه من الحرام.”
إن أمر الرزق محتوم ومفروغ منه، فالكل سيصله ما كتب له من الزرق، فلا ينبغي للإنسان أن يخاف من مستقبله المادي فإنه أهون من أن يتلف من أجله أعصابه ويشغل له حياته، نعم عليه أن يعمل لكسب الحلال، ليجتهد في ذلك، ثم يطمئن أن رزقه لن يفوته، لكنه في مقابل ذلك أن يصرف فكره إلى ما هو أهم من الرزق، وهو الغاية من أخذ الزرق، فإن الرزق وسيلة وليس هدفا، وإنما الهدف هو عبادة الله وحده.
لنتأمل قول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[11] إن الله تعالى أعقب إخباره عن هدف الخلق الذي هو العبادة بموقفه من الزرق، فإنه عز وجل لا يطلب من الإنسان تقديم الرزق، لأنه هو الرزاق، وكل إنسان مرزوق لا محالة، ولكن المطلوب منه هو العبادة، فالزرق مضمون، لكن الغريب أن أكثر الناس مشغولون بما هو مضمون لهم وغافلون عما هو مطلوب منهم.
لذلك قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: “إن حرصك على ما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على طمس بصيرتك.”
الحقيقة الرابعة: أن مصادر الرزق وأسبابها كثيرة متعددة وأبوابها مفتوحة ومتنوعة، فليس للإنسان أن يقصر نظره في مصدر واحد ويحصر اهتمامه في سبب معين، فإن الله له طرائق لا تحصى في إيصال الرزق إلى العبد، وعلى الإنسان أن ينطلق في عبادة الله دون خوف من ضيق الدنيا، وقد ذم الله تعالى قوما حصروا أنفسهم في نقطة ضيقة رغم تعرضهم للذل والظلم، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[12]
إن أرض الله أوسع من أن يعيق الإنسان عن اختيار طريقة حياته كما أراده الله قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[13]
نعم إن الله حث المؤمنين على التحرك والانطلاق الحر ففي أرضه الواسعة ما يكفيه للعيش بكرامة قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[14]
***
ثلاثية كبرىوالحقيقة الأهم من ذلك كله أن الله أراد بهذه الآية تكريس معنى أعظم من الزرق وأسبابه ومصادره ومظاهره،
إنها علاقة ثلاثية مهمة: (الأرض – النفس – السماء) ….
يدل عليها سياق هذه الآيات الثلاث: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون}[15]
ونترككم مع سيد قطب رحمه الله في تأملاته فيها…
قال رحمه الله: “… وبعد،
فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض؛ وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس . ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي ، حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم :
{ وفي السماء رزقكم وما توعدون } . .
وهي لفتة عجيبة . فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض ، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد ، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب . فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء . إلى الغيب . إلى الله . ليتطلع هنالك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم .
أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة ، فهي آيات للموقنين . آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله؛ ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص ، والأسباب الظاهرة للرزق ، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب .
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها؛ ويفهمها على وضعها؛ ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها . فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها .
إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها ، وألا يغفل عن الله في عمارتها . ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء . وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه ، فرزقه مقدر في السماء ، وما وعده الله لا بد أن يكون .
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض؛ بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات . حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولاً قلبه بالسماء . وقدماه ثابتتان على الأرض .
فهكذا يريد الله لهذا الإنسان . هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من طين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين .
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته . لأنه يكون حينئذ . في الحالة التي أنشأه الله لها . فطرة الله التي فطر الناس عليها . قبل أن يتناولها الفساد والانحراف . .
وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء . يقسم الله سبحانه بذاته العلية على صدق هذا الحديث كله :
{ {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } الذاريات 23 } . . [16]
صدقت يا رب، آمنا بك وبكتابك… أعنا على أنفسنا، أعنا على سلوك الطريق إليك…